الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.تفسير الآية رقم (54): {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}{وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} أجعله خالصاً لنفسي {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} وشاهد منه ما لم يحتسب {قَالَ} الملك ليوسف {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء. روي أن الرسول جاءه ومعه سبعون حاجباً وسبعون مركباً وبعث إليه لباس الملوك فقال: أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله: اللهم عطّف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن: هذه منازل البلواء وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء. ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان قال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك. قال: رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك وقال له: من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك. قال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه؟.تفسير الآيات (55- 57): {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}{قَالَ} يوسف {اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} ولني على خزائن أرضك يعني مصر {إِنّى حَفِيظٌ} أمين أحفظ ما تستحفظنيه {عَلِيمٌ} عالم بوجوه التصرف. وصف نفسه بالأمانة والكفاية وهما طلبة الملوك ممن يولونه. وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلبه ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا، وفي الحديث: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة» قالوا: وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عمالة من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يتعرض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع له.{وكذلك} ومثل ذلك التمكين الظاهر {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض} أرض مصر وكان أربعين فرسخاً في أربعين، والتمكين الإقدار وإعطاء المكنة {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} أي كل مكان أراد أن يتخذه منزلاً لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخولها تحت سلطانه. {نشاء} مكي {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا في الدنيا من الملك والغني وغيرهما من النعم {مَّن نَّشَاء} من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} في الدنيا {وَلأَجْرُ الأخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} يريد يوسف وغيره من المؤمنين إلى يوم القيامة {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الشرك والفواحش. قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في ا لدنيا وماله في الآخرة من خلاق، وتلا الآية. روي أن الملك توج يوسف وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر الياقوت، فقال: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فجلس على السرير، ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ثم مات بعد فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت! فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفراثيم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدارهم والدنانير في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر في الثانية، ثم بالدواب في الثالثة، ثم بالعبيد والإماء في الرابعة، ثم بالدور والعقار في الخامسة، ثم بأولادهم في السادسة، ثم برقابهم في السابعة، حتى استرقهم جميعاً، ثم أعتق أهل مصر عن آخرهم، ورد عليهم أملاكهم، وكان لايبيع لأحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، وأصاب أرض كنعان نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا وذلك قوله..تفسير الآيات (58- 59): {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} بلا تعريف {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لتبدل الزي ولأنه كان من وراء الحجاب ولطول المدة وهو أربعون سنة، وروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبروني من أنتم وما شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال: لعلكم جئتم عيوناً تنظرون عورة بلادي. فقالوا: معاذ الله نحن بنو نبي حزين لفقد ابن كان أحبنا إليه وقد أمسك أخاً له من أمه يستأنس به فقال: ائتوني به إن صدقتم.{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ} أعطى كل واحد منهم حمل بعير، وقرئ بكسر الجيم شاذاً {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أتمه {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} كان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم رغبهم بهذا الكلام على الرجوع إليه..تفسير الآيات (60- 64): {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} فلا أبيعكم طعاماً {وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا فهو داخل في حكم الجزاء مجزوم معطوف على محل قوله {فلا كيل لكم} أو هو بمعنى النهي {قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} سنخادعه عنه ونحتال حتى ننزعه من يده {وَإِنَّا لفاعلون} ذلك لا محالة لانفرط فيه ولا نتوانى. قال: فدعوا بعضكم رهناً، فتركوا عنده شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} كوفي غير أبي بكر {لفتيته} غيرهم، وهما جمع فتى كإخوة وإخوان في أخ، وفعلة للقلة، وفعلان للكثرة أي لغلمانه الكيالين {اجعلوا بضاعتهم في رِحَالِهِمْ} أوعيتهم وكانت نعالاً أو أدما أو ورقا وهو أليق بالدس في الرحال {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين {إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} وفرغوا ظروفهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، أو ربما لا يجدون بضاعة بها يرجعون أو ما فيهم من الديانة يعيدهم لرد الأمانة، أو لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً {فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ} بالطعام وأخبروه بما فعل {قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} يريدون قول يوسف {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي} لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} نرفع المانع من الكيل ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه. {يكتل} حمزة وعلي أي يكتل أخوناً فينضم اكتياله إلى اكتيالنا {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} عن أن يناله مكروه.{قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} يعني أنكم قلتم في يوسف {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإناله لحافظون} كما تقولونه في أخيه ثم خنتم بضمانكم فما يأمنني من مثل ذلك؟ ثم قال: {فالله خَيْرٌ حافظا} كوفي غير أبي بكر. فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وهو حال أو تمييز، ومن قرأ {حِفظا} ً فهو تمييز لا غير. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين قال كعب: لما قال: {فالله خير حفظاً} قال الله تعالى وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما..تفسير الآيات (65- 68): {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)}{وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِى} {ما} للنفي أي ما نبغي في القول ولا تتجاوز الحق أو ما نبغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان، أو ما نريد منك بضاعة أخرى، أو للاستفهام أيْ أيّ شيء نطلب وراء هذا؟ {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} جملة مستأنفة موضحة لقوله {ما نبغي} والجمل بعدها معطوفة عليها أي أن بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} في رجوعنا إلى الملك أي نجلب لهم ميرة وهي طعام يحمل من غير بلدك {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} في ذهابنا ومجيئنا فما يصيبه شيء مما تخافه {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} نزداد وسق بعير باستصحاب أخينا {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} سهل عليه متيسر لا يتعاظمه {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ} وبالياء: مكي {مَوْثِقًا} عهداً {مِنَ الله} والمعنى حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي أراد أن يحلفوا له بالله. وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما يؤكد به العهود وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جواب اليمين لأن المعنى حتى تحلفوا لتأتنني به {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به فهو مفعول له، والكلام المثبت وهو قوله {لتأتنني به} في تأويل النفي أي لا تمتنعوا من الإتيان به إلا للإحاطة بكم يعني لا تمتنعوا منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي فلابد من تأويله بالنفي {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} قيل: حلفوا بالله رب محمد عليه السلام {قَالَ} بعضهم يسكت عليه لأن المعنى قال يعقوب {الله على مَا نَقُولُ} من طلب الموثق وإعطائه {وَكِيلٌ} رقيب مطلع غير أن السكتة تفصل بين القول والمقول وذا لا يجوز، فالأولى يأن يفرق بينهما بالصوت فيقصد بقوة النغمة اسم الله.{وَقَالَ يا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} الجمهور على أنه خاف عليهم العين لجمالهم وجلالة أمرهم ولم يأمرهم بالتفرق في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين في الكرة الأولى، فالعين حق عندنا وجه بأن يحدث الله تعالى عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصاناً فيه وخللاه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة ومن كل عين لامة» وأنكر الجبائي العين وهو مردود بما ذكرنا. وقيل: إنه أحب أن لا يفطن بهم أعداؤهم فيحتالوا لإهلاكهم {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} أي إن كان الله أراد بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أسرت به عليكم من التفرق وهو مصيبكم لا محالة {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي متفرقين {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ} دخولهم من أبواب متفرقة {مّنَ الله مِن شَئ} أي شيئاً قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء منقطع أي ولكن حاجة {فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهي شفقته عليهم {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} يعني قوله وما أغنى عنكم وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر {لّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك..تفسير الآيات (69- 70): {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)}{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضم إليه بنيامين. وروي أنهم قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم فأنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله وقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وعانقه ثم {قَالَ} له {إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يُوسُف {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك وروي أنه قال له فأنا لا أفارقك. قال لقد علمت اغتمام والدي بي فإن حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك ألا أن أنسبك إلا ما لا يحمد. قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك. قال: فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم فقال: افعل {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} هيأ أسبابهم وأوفى الكيل لهم {جَعَلَ السقاية في رَحْلِ أَخِيهِ} السقاية هي مشربة يُسقى بها وهي الصواع. قيل: كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به لعزة الطعام وكان يشبه الطاس من فضة أو ذهب {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} ثم نادى مناد آذنه أي أعلمه، وأذن أكثر الأعلام ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه. روي أنهم ارتلحوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ثم قيل لهم {أَيَّتُهَا العير} هي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء والمراد أصحاب العير {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} كناية عن سرقتهم إياه من أبيه..تفسير الآيات (71- 76): {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} هو الصاع {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقوله المؤذن يريد وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى من جاء به وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله {قَالُواْ تالله} قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض} استشهدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم حيث دخلوا وأفواه رواحلهم مشدودة لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق، ولأنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم {وَمَا كُنَّا سارقين} وما كنا نوصف قط بالسرقة {قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ} الضمير للصواع أي فما جزاء سرقته {إِن كُنتُمْ كاذبين} في جحودكم وادعائكم البراءة منه {قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ} أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في جزائه. وقولهم {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقرير للحكم أي فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير، أو {جزاؤه} مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره {كذلك نَجْزِى الظالمين} أي السراق بالاسترقاق {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال: ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا: والله لا نتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا {ثُمَّ استخرجها} أي الصواع {مِن وِعَاء أَخِيهِ} ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه لأن التأنيث يرجع إلى السقاية، أو لأن الصواع يذكر ويؤنث.الكاف في {كذلك} في محل النصب أي مثل ذلك الكيد العظيم {كِدْنَا لِيُوسُفَ} يعني علمناه إياه {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} تفسير للكيد وبيان له لأن الحكم في دين الملك أي في سيرته للسارق أن يغرم مثلي ما أخذ لا أن يستعبد {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي ما كان ليأخذه إلا بمشيئة الله وإرادته فيه {نَرْفَعُ درجات} بالتنوين: كوفي {مَّن نَّشَاء} أي في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليهم هم دونه في العلم وهو الله عز وجل.
|